فصل: الصنف الثالث المتصوفة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


الصنف الثالث المتصوفة

وما أغلب الغرور عليهم والمغترون منهم فرق كثيرة‏.‏

ففرق منهم وهم المتصوفة أهل الزمان إلا من عصمه الله اغتروا بالزي والهيئة والمنطق فساعدوا الصادقين من الصوفية في زيهم وهيئتهم وفي ألفاظهم وفي آدابهم ومراسمهم واصطلاحاتهم وفي أحوالهم الظاهرة في السماع والرقص والطهارة والصلاة والجلوس على السجادات مع إطراق الرأس وإدخاله في الجيب كالمتفكر وفي تنفس الصعداء وفي خفض الصوت في الحديث إلى غير ذلك من الشمائل والهيئات فلما تكلفوا هذه الأمور وتشبهوا بهم فيها ظنوا أنهم أيضاً صوفية ولم يتعبوا أنفسهم قط في المجاهدة والرياضة ومراقبة القلب وتطهير الباطن والظاهر من الآثام الخفية والجلية وكل ذلك من أوائل منازل التصوف ولو فرغوا عن جميعها لما جاز لهم أن يعدوا أنفسهم في الصوفية كيف ولم يحوموا قط حولها ولم يسوموا أنفسهم شيئاً منها بل يتكالبون على الحرام والشبهات وأموال السلاطين ويتنافسون في الرغيف والفلس والحبة ويتحاسدون على النقير والقطمير ويمزق بعضهم أعراض بعض مهما خالفه في شيء من غرضه‏.‏

وهؤلاء غرورهم ظاهر ومثالهم مثال امرأة عجوز سمعت أن الشجعان والأبطال من المقاتلين ثبت أسماؤهم في الديوان ويقطع لكل واحد منهم قطر من أقطار المملكة فتاقت نفسها إلى أن يقطع لها مملكة فلبست درعاً ووضعت على رأسها مغفراً وتعلمت من رجز الأبطال أبياتاً وتعودت إيراد تلك الأبيات بنغماتهم حتى تيسرت عليها وتعلمت كيفية تبخترهم في الميدان وكيف تحريكهم الأيدي وتلقفت جميع شمائلهم في الزي والمنطق والحركات والسكنات ثم توجهت إلى المعسكر ليثبت اسمها في ديوان الشجعان فلما وصلت إلى المعسكر أنفذت إلى ديوان العرض وأمر بأن تجرد عن المغفر والدرع وينظر ما تحته وتمتحن بالمبارزة مع بعض الشجعان ليعرف قدر عنائها في الشجاعة فلما جردت عن المغفر والدرع فإذا هي عجوز ضعيفة زمنة لا تطيق حمل الدرع والمغفر فقيل لها أجئت للاستهزاء بالملك وللاستخفاف بأهل حضرته والتلبيس عليهم خذوها فألقوها قدام الفيل لسخفها فألقيت إلى الفيل‏.‏

فكهذا يكون حال المدعين للتصوف في القيامة إذا كشف عنهم الغطاء وعرضوا على القاضي الأكبر الذي لا ينظر إلى الزي والمرقع بل إلى القلب‏.‏

وفرقة أخرى زادت على هؤلاء في الغرور إذ شق عليها الاقتداء بهم في بذاذة الثياب والرضا بالدون فأرادت أن تتظاهر بالتصوف ولم تجد بداً من التزين بزيهم فتركوا الحرير والإبريسم وطلبوا المرقعات النفيسة والفوط الرقيقة والسجادات المصبغة ولبسوا من الثياب ما هو أرفع قيمة من الحرير والإبريسم وظن أحدهم مع ذلك أنه متصوف بمجرد لون الثوب وكونه مرقعاً ونسي أنهم إنما لونوا الثياب لئلا يطول عليهم غسلها كل ساعة لإزالة الوسخ وإنما لبسوا المرقعات إذ كانت ثيابهم مخرقة فكانوا يرقعونها ولا يلبسون الجديد فأما تقطيع الفوط الرقيقة قطعة قطعة وخياطة المرقعات منها فمن أين يشبه ما اعتادوه فهؤلاء أظهر حماقة من كافة المغرورين فإنهم يتنعمون بنفيس الثياب ولذيذ الأطعمة ويطلبون رغد العيش ويأكلون أموال السلاطين ولا يجتنبون المعاصي الظاهرة فضلاً عن الباطنة وهم مع ذلك يظنون بأنفسهم الخير وشر هؤلاء مما يتعدى إلى الخلق إذ يهلك من يقتدي بهم ومن لا يقتدي بهم تفسد عقيدته في أهل التصوف كافة ويظن أن يجمعهم كانوا من جنسه فيطول اللسان في الصادقين منهم وكل ذلك من شؤم المتشبهين وشرهم‏.‏

وفرقة أخرى ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات والأحوال والملازمة في عين الشهود والوصول إلى القرب ولا يعرف هذه الأمور إلا بالأسامي والألفاظ لأنه تلقف من ألفاظ الطامات كلمات فهو يرددها ويظن أن ذلك أعلى من علم الأولين والآخرين فهو ينظر إلى الفقهاء والمفسرين والمحدثين وأصناف العلماء بعين الإزراء فضلاً عن العوام حتى إن الفلاح ليترك فلاحته والحائك يترك حياكته ويلازمهم أياماً معدودة ويتلقف منهم تلك الكلمات المزيفة فيرددها كأنه يتكلم عن الوحي ويخبر عن سر الأسرار ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء فيقول في العباد إنهم أجراء متعبون ويقول في العلماء إنهم بالحديث عن الله محجوبون ويدعى لنفسه أنه الواصل إلى الحق وأنه من المقربين وهو عند الله من الفجار المنافقين وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين لم يحكم قط علماً ولم يهذب خلقاً ولم يرتب عملاً ولم يراقب قلباً سوى اتباع الهوى وتلقف الهذيان وحفظه‏.‏

وفرقة أخرى وقعت في الإباحة وطووا بساط الشرع ورفضوا الأحكام وسووا بين الحلال والحرام فبعضهم يزعم أن الله مستغن عن عملي فلم أتعب نفسي وبعضهم يقول‏:‏ قد كلف الناس تطهير القلوب عن الشهوات وعن حب الدنيا وذلك محال فقد كلفوا ما لا يمكن وإنما يغتر به من لم يجرب وأما نحن فقد جربنا وأدركنا أن ذلك محال‏.‏

ولا يعلم الأحمق أن الناس لم يكلفوا قلع الشهوة والغضب من أصلهما بل إنما كلفوا قلع مادتهما بحيث ينقاد كل واحد منهما لحكم العقل والشرع‏.‏

وبعضهم يقول‏:‏ الأعمال بالجوارح لا وزن لها وإنما النظر إلى القلوب وقلوبنا والهة بحب الله وواصلة إلى معرفة الله وإنما نخوض في الدنيا بأبداننا وقلوبنا عاكفة في حضرة الربوبية فنحن مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب ويزعمون إنهم قد ترقوا عن رتبة العوام واستغنوا عن تهذيب النفس بالأعمال البدنية وأن الشهوات لا تصدهم عن طريق الله لقوتهم فيها ويرفعون درجة أنفسهم على درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ كانت تصدهم عن طريق الله خطيئة واحدة حتى كانوا يبكون عليها وينوحون سنين متوالية وأصناف غرور أهل الإباحة من المتشبهين بالصوفية لا تحصى وكل ذلك بناء على أغاليط ووساوس يخدعهم الشيطان بها لاشتغالهم بالمجاهدة قبل إحكام العلم ومن غير اقتداء بشيخ متقن في الدين والعلم صالح للاقتداء به وإحصاء أصنافهم يطول‏.‏

وفرقة أخرى جاوزت حد هؤلاء واجتنبت الأعمال وطلقت الحلال واشتغلت بتفقد القلب وصار أحدهم يدعي المقامات من الزهد والتوكل والرضا والحب من غير وقوف على حقيقة هذه المقامات وشروطها وعلاماتها وآفاتها‏.‏

فمنهم من يدعي الوجد والحب لله تعالى ويزعم أنه واله بالله ولعله قد تخيل في الله خيالات هي بدعة أو كفر فيدعي حب الله قبل معرفته ثم إنه لا يخلو عن مقارفة ما يكره الله عز وجل وعن إيثار هوى نفسه على أمر الله وعن ترك بعض الأمور حياء من الخلق ولو خلا لما تركه حياء من الله تعالى‏.‏

وليس يدري أكل ذلك يناقض الحب وبعضهم ربما يميل إلى القناعة والتوكل فيخوض البوادي من غير زاد ليصحح دعوى التوكل وليس يدري أن ذلك بدعة لم تنقل عن السلف والصحابة وقد كانوا أعرف بالتوكل منه فما فهموا أن التوكل المخاطرة بالروح وترك الزاد بل كانوا يأخذون الزاد وهم متوكلون على الله تعالى لا على الزاد وهذا ربما يترك الزاد وهو متوكل على سبب من الأسباب واثق به وما من مقام من المقامات المنجيات إلا وفيه غرور وقد اغتر به قوم قد ذكرنا مداخل الآفات في ربع المنجيات من الكتاب فلا يمكن إعادتها‏.‏

وفرقة أخرى ضيقت على نفسها في أمر القوت حتى طلبت منه الحلال الخالص وأهملوا تفقد القلب والجوارح في غير هذه الخصلة الواحدة ومنهم من أهمل الحلال في مطعمه وملبسه ومسكنه وأخذ يتعمق في غير ذلك وليس يدري المسكين أن الله تعالى لم يرض من عبد بطلب الحلال فقط ولا يرضى بسائر الأعمال دون طلب الحلال بل لا يرضيه إلا تفقد جميع الطاعات والمعاصي‏.‏

فمن ظن أن بعض هذه الأمور يكفيه وينجيه فهو مغرور‏.‏

وفرقة أخرى ادعوا حسن الخلق والتواضع والمساحة فتصدوا لخدمة الصوفية فجمعوا قوماً وتكلفوا بتخدمتهم واتخذوا ذلك للرياسة وجمع المال وإنما غرضهم التكبر وهم يظهرون الخدمة والتواضع وغرضهم الارتفاع وهم يظهرون أن غرضهم الإرفاق وغرضهم الاستتباع وهم يظهرون أن غرضهم الخدمة والتبعية ثم إنهم يجمعون من الحرام والشبهات وينفقون عليهم لتكثر أتباعهم وينشر بالخدمة اسمهم وبعضهم يأخذ أموال السلاطين ينفق عليهم وبعضهم يأخذها لينفق في طريق الحج على الصوفية ويزعم أن غرضه البر والإنفاق وباعث جميعهم الرياء والسمعة وآية ذلك إهمالهم لجميع أوامر الله تعالى عليهم ظاهراً وباطناً ورضاهم بأخذ الحرام والإنفاق منه‏.‏

ومثال من ينفق الحرام في طريق الحج لإرادة الخير كمن يعمر مساجد الله فيطينها بالعذرة ويزعم أن قصده العمارة‏.‏

وفرقة أخرى اشتغلوا بالمجاهدة وتهذيب الأخلاق وتطهير النفس من عيوبها وصاروا يتعمقون فيها فاتخذوا البحث عن عيوب النفس ومعرفة خدعها علماً وحرفة فهم في جميع أحوالهم مشغولون بالفحص عن عيوب النفس واستنباط دقيق الكلام في آفاتها‏.‏

فيقولون هذا في النفس عيب والغفلة عن كونه عيباً عيب والالتفات إلى كونه عيباً عيب ويشغفون فيه بكلمات مسلسلة تضيع الأوقات في تلفيقها ومن جعل طول عمره في التفتيش عن عيوب النفس وتحريم علم علاجها كان كمن اشتغل بالتفتيش عن عوائق الحج وآفاته ولم يسلك طريق الحج فذلك لا يغنيه‏.‏

وفرقة أخرى جاوزوا هذه الرتبة وابتدءوا سلوك الطريق وانفتح لهم أبواب المعرفة فكلما تشمموا من مبادئ المعرفة رائحة تعجبوا منها وفرحوا بها وأعجبتهم غرابتها فتقيدت قلوبهم بالالتفات إليها والتفكر فيها وفي كيفية انفتاح بابها عليهم وانسداده على غيرهم وكل ذلك غرور لأن عجائب طريق الله ليس لها نهاية فلو وقف مع كل أعجوبة وتقيد بها قصرت خطاه وحرم الوصول إلى المقصد وكان مثاله مثال من قصد ملكاً فرأى على باب ميدانه روضة فيها أزهار وأنوار لم يكن قد رأى قبل ذلك مثلها فوقف ينظر إليها ويتعجب حتى فاته الوقت الذي يمكن فيه لقاء الملك‏.‏

‏"‏ وفرقة أخرى ‏"‏ جاوزوا هؤلاء ولم يلتفتوا إلى ما يفيض عليهم من الأنوار في الطريق ولا إلا ما تيسر لهم من العطايا الجزيلة ولم يعرجوا على الفرح بها والالتفات إليها جادين في السير حتى قاربوا فوصلوا إلى حد القربة إلى الله تعالى فظنوا أنهم قد وصلوا إلى الله فوقفوا وغلطوا فإن لله تعالى سبعين حجاباً من نور لا يصل السالك إلى حجاب من تلك الحجب في الطريق إلا ويظن أنه قد وصل‏.‏

وإليه الإشارة بقول إبراهيم عليه السلام إذ قال الله تعالى إخباراً عنه ‏"‏ فلما جن الليل رأى كوكباً قال هذا ربي ‏"‏ وليس المعنى به هذه الأجسام المضيئة فإنه كان يراها في الصغر ويعلم أنها ليست آلهة وهي كثيرة وليست واحداً والجهال يعلمون أن الكوكب ليس بإله فمثل إبراهيم عليه السلام لا يغره الكوكب الذي لا يغر السوادية‏.‏

ولكن المراد به أنه نور من الأنوار التي هي من حجب الله عز وجل وهي على طريق السالكين ولا يتصور الوصول إلى الله تعالى إلا بالوصول إلى هذه الحجب وهي حجب من نور بعضها أكبر من بعض وأصغر النيرات الكوكب فاستعير له لفظه وأعظمها الشمس وبينهما رتبة القمر فلم يزل إبراهيم عليه السلام لما رأى ملكوت السموات حيث قال تعالى ‏"‏ وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض ‏"‏ ويصل إلى نور بعد نور ويتخيل إليه في أول ما كان يلقاه أنه قد وصل ثم كان يكشف له أن وراءه أمراً فيترقى إليه ويقول‏:‏ قد وصلت فيكشف له ما وراءه حتى وصل إلى الحجاب الأقرب الذي لا وصول إلا بعده فقال ‏"‏ هذا أكبر ‏"‏ فلما ظهر له أنه مع عظمه غير خال عن الهوى في حضيض النقص والانحطاط عن ذروة الكمال ‏"‏ قال لا أحب الآفلين إلى أن قال إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ‏"‏ وسالك هذه الطريق قد يغتر في الوقوف على بعض هذه الحجب وقد يغتر بالحجاب الأول وأول الحجب بين الله وبين العبد هو نفسه فإنه أيضاً أمر رباني وهو نور من أنوار الله تعالى أعني سر القلب الذي تتجلى فيه حقيقة الحق كله حتى إنه ليتسع لجملة العالم ويحيط به وتتجلى فيه صورة الكل وعند ذلك يشرق نوره إشراقاً عظيماً إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه وهو في أول الأمر محجوب بمشكاة هي كالساتر له فإذا تجلى نوره وانكشف جمال القلب بعد إشراق نور الله عليه ربما التفت صاحب القلب إلى القلب فيرى من جماله الفائق ما يدهشه وربما يسبق لسانه في هذه الدهشة فيقول‏:‏ أنا الحق فإن لم يتضح له ما وراء ذلك اغتر به ووقف عليه وهلك وكان قد اغتر بكوكب صغير من أنوار الحضرة الإلهية ولم يصل بعد إلى القمر فضلاً عن الشمس فهو مغرور وهذا محل الالتباس إذ المتجلي يلتبس بالمتجلى فيه كما يلتبس لون ما يتراءى في المرآة فيظن أنه لون المرآة وكما يلتبس ما في الزجاج بالزجاج كما قيل‏:‏ رق الزجاج ورقت الخمر فتشابها فتشاكل الأمر فكأنهما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر وبهذه العين نظر النصارى إلى المسيح فرأوا إشراق نور الله قد تلألأ فيه فغلطوا فيه كمن يرى كوكباً في مرآة أو في ماء فيظن أن الكوكب في المرآة أو في الماء فيمد يده إليه ليأخذه وهو مغرور وأنواع الغرور في طريق السلوك إلى الله تعالى لا تحصى في مجلدات ولا تستقصى إلا بعد شرح جميع علوم المكاشفة وذلك مما لا رخصة في ذكره ولعل القدر الذي ذكرناه أيضاً كان الأولى تكره إذ المسالك لهذا الطريق لا يحتاج إلى أن يسمعه من غيره والذي لم يسلكه لا ينتفع بسماعه بل ربما يستضر به إذ يورثه ذلك دهشة من حيث يسمع ما لا يفهم ولكن فيه فائدة وهو إخراجه من الغرور الذي هو فيه بل ربما يصدق بأن الأمر أعظم مما يظنه ومما يتخيله بذهنه المختصر وخياله القاصر وجدله المزخرف ويصدق أيضاً بما يحكى له من المكاشفات التي أخبر عنها أولياء الله ومن عظم غروره ربما أصر مكذباً بما يسمعه الآن كما يكذب بما سمعه من قبل‏.‏

الصنف الرابع أرباب الأموال

والمغترون منهم فرق‏:‏ ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وما يظهر للناس كافة ويكتبون أساميهم بالآجر عليها ليتخلد ذكرهم ويبقى بعد الموت أثرهم وهم يظنون أنهم قد استحقوا المغفرة بذلك‏.‏

وقد اغتروا فيه من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم يبنونها من أموال اكتسبوها من الظلم والنهب والرشا والجهات المحظورة فهم قد تعرضوا لسخط الله في كسبها وتعرضوا لسخطه في إنفاقها وكان الواجب عليهم الامتناع عن كسبها فإذن قد عصوا الله بكسبها فالواجب عليهم التوبة والرجوع إلى الله وردها إلى ملاكها إما بأعيانها وإما برد بدلها عند العجز فإن عجزوا عن الملاك كان الواجب ردها إلى الورثة فإن لم يبق للمظلوم وارث فالواجب صرفها إلى أهم المصالح وربما يكون الأهم التفرقة على المساكين وهم لا يفعلون ذلك خيفة من أن لا يظهر ذلك للناس فيبنون الأبنية بالآجر وغرضهم من بنائها الرياء وجلب الثناء وحرصهم على بقاءها لبقاء أسماءهم المكتوبة فيها لا لبقاء الخير‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أنهم يظنون بأنفسهم الإخلاص وقصد الخير في الإنفاق على الأبنية ولو كلف واحد منهم أن ينفق ديناراً ولا يكتب اسمه على الموضع الذي أنفق عليه لشق عليه ذلك ولم تسمح به نفسه والله مطلع عليه كتب اسمه أو لم يكتب ولولا أنه يريد به وجه الناس لا وجه الله لما افتقر إلى ذلك‏.‏

وفرقة أخرى ربما اكتسبت المال من الحلال وأنفقت على المساجد وهي أيضاً مغرورة من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ الرياء وطلب الثناء فإنه ربما يكون في جواره أو بلده فقراء وصرف المال إليهم أهم وأفضل وأولى من الصرف إلى بناء المساجد وزينتها وإنما يخف عليهم الصرف إلى المساجد والثاني‏:‏ أنه يصرف إلى زخرفة المسجد وتزيينه بالنقوش التي هي منهي عنها وشاغلة قلوب المصلين ومختطفة أبصارهم والمقصود من الصلاة الخشوع وحضور القلب وذلك يفسد قلوب المصلين ويحبط ثوابهم بذلك ووبال ذلك كله يرجع إليه وهو مع ذلك يغتر به ويرى أنه من الخيرات ويعد ذلك وسيلة إلى الله تعالى وهو مع ذلك قد تعرض لسخط الله تعالى وهو يظن أنه مطيع له وممتثل لأمره وقد شوش قلوب عباد الله بما زخرفه من المسجد وربما شوقهم به إلى زخارف الدنيا فيشتهون مثل ذلك في بيوتهم ويشتغلون بطلبه ووبال ذلك كله في رقبته إذ المسجد للتواضع ولحضور القلب مع الله تعالى‏.‏

قال مالك بن دينار‏:‏ أتى رجلان مسجداً فوقف أحدهما على الباب وقال‏:‏ مثلي لا يدخل بيت الله فكتبه الملكان عند الله صديقاً‏.‏

فهكذا ينبغي أن تعظم المساجد وهو أن يرى تلويث المسجد بدخوله فيه بنفسه جناية على المسجد لا أن يرى تلويث المسجد بالحرام أو بزخرف الدنيا منة على الله تعالى‏.‏

وقال الحواريون للمسيح عليه السلام‏:‏ انظر إلى هذا المسجد ما أحسنه‏!‏ فقال‏:‏ أمتي أمتي بحق أقول لكم لا يترك الله من هذا المسجد حجراً قائماً على حجر إلا أهلكه بذنوب أهله إن الله لا يعبأ بالذهب والفضة ولا بهذه الحجارة التي تعجبكم شيئاً وإن أحب الأشياء إلى الله تعالى القلوب الصالحة بها يعمر الله الأرض وبها يخرب إذا كانت على غير ذلك وقال أبو الدرداء‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا زخفرتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم وقال الحسن ‏"‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبني مسجد المدينة أتاه جبريل عليه السلام فقال له‏:‏ ابنه سبعة أذرع طولاً في السماء لا تزخرفه ولا تنقشه فغرور هذا من حيث أنه رأى المنكر واتكل عليه‏.‏

وفرقة أخرى ينفقون الأموال في الصدقات على الفقراء والمساكين ويطلبون به المحافل الجامعة ومن الفقراء من عادته الشكر والإنشاء للمعروف ويكرهون التصدق في السر ويرون إخفاء الفقير لما يأخذ منهم جناية عليهم وكفراناً وربما يحرصون على إنفاق المال في الحج فيحجون مرة بعد أخرى وربما تركوا جيرانهم جياعاً ولذلك قال ابن مسعود‏:‏ في آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب يهون عليهم السفر ويبسط لهم في الرزق ويرجعون محرومين مسلوبين يهوى بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار وجاره مأسور إلى جنبه لا يواسيه‏.‏

وقال أبو نصر التمار‏:‏ إن رجلاً جاء يودع بشر بن الحارث وقال‏:‏ قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء فقال له‏:‏ كم أعددت للنفقة فقال‏:‏ ألفي درهم‏.‏

قال بشر‏:‏ فأي شيء تبتغي بحجك تزهداً أو اشتياقاً إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله قال‏:‏ ابتغاء مرضاة الله قال‏:‏ فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى أتفعل ذلك قال‏:‏ نعم قال‏:‏ اذهب فأعطها عشرة أنفس‏:‏ مديون يقضي دينه وفقير يرم شعثه ومعيل يغني عياله ومربي يتيم يفرحه وإن قوي قلبك تعطيها واحداً فافعل فإن إدخالك السرور على قلب المسلم وإغاثة اللهفان وكشف الضر وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام قم فأخرجها كما أمرناك وإلا فقل لنا ما في قلبك فقال‏:‏ يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي فتبسم بشر رحمه الله وأقبل عليه وقال له‏:‏ المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطراً فأظهرت الأعمال الصالحات وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين‏.‏

وفرقة أخرى من أرباب الأموال اشتغلوا بها يحفظون الأموال ويمسكونها بحكم البخل ثم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها إلى نفقة كصيام النهار وقيام الليل وختم القرآن وهم مغرورون لأن البخل المهلك قد استولى على بواطنهم فهو يحتاج إلى قمعه بإخراج المال فقد اشتغل بطلب فضائل هو مستغن عنها ومثاله مثال من دخل في ثوبه حية وقد أشرف على الهلاك وهو مشغول بطبخ السكنجبين ليسكن به الصفراء ومن قتلته الحية متى يحتاج إلى السكنجبين ولذلك قيل لبشر‏:‏ إن فلاناً الغني كثير الصوم والصلاة فقال‏:‏ المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره وإنما حال هذا إطعام الطعام للجياع والإنفاق على المساكين فهذا أفضل له من تجويعه نفسه ومن صلاته لنفسه من جمعه للدنيا ومنعه للفقراء‏.‏

وفرقة أخرى غلبهم البخل فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط ثم إنهم يخرجون من المال الخبيث الرديء الذي يرغبون عنه ويطلبون من الفقراء من يخدمهم ويتردد في حاجاتهم ومن يحتاجون إليه في المستقبل للاستسخار في خدمة أو من لهم فيه على الجملة غرض أو يسلمون ذلك إلى من يعينه واحد من الأكابر ممن يستظهر بحشمة لينال بذلك عنده منزلة فيقوم بحاجاته‏.‏

وكل ذلك مفسدات للنية ومحبطات للعمل وصاحبه مغرور ويظن أنه مطيع لله تعالى وهو فاجر إذ طلب بعبادة الله عوضاً من غيره فهذا وأمثاله من غرور أصحاب الأموال أيضاً لا يحصى وإنما ذكرنا هذا القدر للتنبيه على أجناس الغرور‏.‏

وفرقة أخرى من عوام الخلق وأرباب الأموال والفقراء اغتروا بحضور مجالس الذكر واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم واتخذوا ذلك عادة ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون العمل ودون الاتعاظ أجراً وهم مغرورون لأن فضل مجلس الذكر لكونه مرغباً في الخير فإن لم يهيج الرغبة فلا خير فيه والرغبة محمودة لأنها تبعث على العمل فإن ضعفت عن الحمل على فلا خير فيها وما يراد لغيره فإذا قصر عن الأداء إلى ذلك الغير فلا قيمة له وربما يغتر بما يسمعه من الواعظ من فضل حضور المجلس وفضل البكاء وربما تدخله رقة كرقة النساء فيبكي ولا عزم وربما يسمع كلاماً مخوفاً فلا يزيد على أن يصفق بيديه ويقول‏:‏ يا سلام سلم‏!‏ أو نعوذ بالله أو سبحان الله‏!‏ ويظن أنه قد أتى بالخير كله وهو مغرور‏.‏

وإنما مثاله مثال المريض الذي يحضر مجالس الأطباء فيسمع ما يجري أو الجائع الذي يحضر عنده من يصف له الأطعمة اللذيذة الشهية ثم ينصرف وذلك لا يغني عنه من مرضه وجوعه شيئاً‏.‏

فكذلك سماع وصف الطاعات دون العمل بها لا يغني من الله شيئاً‏.‏

فكل وعظ لم يغير منك صفة تغييراً يغير أفعالك حتى تقبل على الله تعالى إقبالاً قوياً أو ضعيفاً وتعرض عن الدنيا فذلك الوعظ زيادة حجة عليك فإذا رأيته وسيلة لك كنت مغروراً‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما ذكرته من مداخل الغرور أمر لا يتخلص منه أحد ولا يمكن الاحتراز منه وهذا يوجب اليأس إذ لا يقوى أحد من البشر على الحذر من خفايا هذه الآفات فأقول‏:‏ الإنسان إذا افترقت همته في شيء أظهر اليأس منه واستعظم الأمر واستوعر الطريق وإذا صح منه الهوى اهتدى إلى الحيل واستنبط بدقيق النظر خفايا الطرق في الوصول إلى الغرض حتى إن الإنسان إذا أراد أن يستنزل الطير المحلق في جو السماء مع بعده منه استنزله وإذا أراد أن يخرج الحوت من أعماق البحر استخرجه وإذا أراد أن يستخرج الذهب أو الفضة من تحت الجبال استخرجه وإذا أراد أن يقنص الوحوش المطلقة في البراري والصحاري اقتنصها وإذا أراد أن يستسخر السباع والفيلة وعظيم الحيوانات استسخرها وإذا أراد أن يأخذ الحيات والأفاعي ويعبث بها أخذها واستخرج الدرياق من أجوافها وإذا أراد أن يتخذ الديباج الملون المنقش من ورق التوت اتخذه وإذا أراد أن يعرف مقادير الكواكب وطولها وعرضها استخراج بدقيق الهندسة ذلك وهو مستقر على الأرض وكل ذلك باستنباط الحيل وإعداد الآلات‏.‏

فسخر الفرس للركوب والكلب للصيد وسخر البازي لاقتناص الطيور وهيأ الشبكة لاصطياد السمك إلى غير ذلك من دقائق حيل الآدمي‏.‏

كل ذلك لأن همه أمر دنياه وذلك معين له على دنياه فلو همه أمر آخرته فليس عليه إلا شغل واحد وهو تقويم قلبه فعجز عن تقويم قلبه وتخاذل وقال هذا محال ومن الذي يقدر عليه وليس ذلك بمحال لو أصبح وهمه هذا الهم الواحد بل هو كما يقال لو صح منك الهوى أرشدت للحيل فهذا شيء لم يعجز عنه السلف الصالحون ومن اتبعهم بإحسان‏.‏

فلا يعجز عنه أيضاً من صدقت إرادته وقويت همته بل لا يحتاج إلى عشر تعب الخلق في استنباط حيل الدنيا ونظم أسبابها‏.‏

فإن قلت‏:‏ قد قربت الأمر فيه مع أنك أكثرت في ذكر مداخل الغرور فبم ينجو العبد من الغرور فاعلم أنه ينجو منه بثلاثة أمور‏:‏ بالفعل والعلم والمعرفة‏.‏

فهذه ثلاثة أمور لا بد منها‏.‏

أما العقل‏:‏ فأعني به الفطرة الغريزية والنور الأصلي الذي به يدرك الإنسان حقائق الأشياء فالفطنة والكيس فطرة والحمق والبلادة فطرة والبليد لا يقدر على التحفظ عن الغرور فصفاء العقل وذكاء الفهم لا بد منه في أصل الفطرة فهذا إن لم يفطر عليه الإنسان فاكتسابه غير ممكن‏.‏

نعم إذا حصل أصله أمكن تقويته بالممارسة فأساس السعادات كلها العقل والكياسة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ تبارك الله الذي قسم العقل بين عباده أشتاناً إن الرجلين ليستوي عملهما وبرهما وصومهما وصلاتهما ولكنهما يتفاوتان في العقل كالذرة في جنب أحد وما قسم الله لخلقه حظاً هو أفضل من العقل واليقين‏.‏

وعن أبي الدرداء أنه قيل‏:‏ يا رسول الله أرأيت الرجل يصوم النهار ويقول الليل ويحج ويعتمر ويتصدق ويغزو في سبيل الله ويعود المريض ويشيع الجنائز ويعين الضعيف ولا يعلم منزلته عند الله يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنما يجزى على قدر عقله وقال أنس‏:‏ أثني على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا خيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كيف عقله ‏"‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله

نقول من عبادته وفضله وخلقه فقال ‏"‏ كيف عقله فإن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر‏.‏

وإنما يقرب الناس يوم القيامة على قدر عقولهم وقال أبو الدرداء‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن رجل شدة عبادة سأل عن عقله فإذا قالوا حسن قال ‏"‏ أرجوه ‏"‏ وإن قالوا غير ذلك قال ‏"‏ لن يبلغ وذكر له شدة عبادة رجل فقال ‏"‏ كيف عقله ‏"‏ قالوا‏:‏ ليس بشيء قال ‏"‏ لن يبلغ صاحبكم حيث تظنون ‏"‏ فالذكاء صحيح وغريزة العقل نعمة من الله تعالى في أصل الفطر فإن فاتت ببلادة وحماقة فلا تدارك لها‏.‏

الثاني‏:‏ المعرفة وأعني بالمعرفة أن يعرف أربع أمور‏:‏ يعرف نفسه ويعرف ربه ويعرف الدنيا ويعرف الآخرة‏:‏ فيعرف نفسه بالعبودية والذل وبكونه غريباً في هذا العالم وأجنبياً من هذه الشهوات البهيمية وإنما الموافق له طبعاً هو معرفة الله تعالى والنظر إلى وجهه فقط فلا يتصور أن يعرف هذا ما لم يعرف نفسه ولم يعرف ربه فليستعن على هذا بما ذكرناه في كتاب المحبة وفي كتاب شرح عجائب القلب وكتاب التفكر وكتاب الشكر إذ فيها إشارات إلى وصف النفس وإلى وصف جلال الله ويحصل به التنبيه على الجملة وكمال المعرفة وراءه فإن هذا من علوم المكاشفة ولم نطنب في هذا الكتاب إلا في علوم المعاملة‏.‏

وأما معرفة الدنيا والآخرة فيستعين عليها بما ذكرنا في كتاب ذم الدنيا وكتاب ذكر الموت ليتبين له أن لا نسبة للدنيا إلى الآخرة فإذا عرف نفسه وربه وعرف الدنيا والآخرة ثار من قلبه بمعرفة الله حب الله وبمعرفة الآخرة شدة الرغبة فيها وبمعرفة الدنيا الرغبة عنها ويصير أهم أموره ما يوصله إلى الله تعالى وينفعه في الآخرة وإذا غلبت هذه الإرادة على قلبه صحت نيته في الأمور كلها فإن أكل مثلاً أو اشتغل

بقضاء الحاجة كان قصده منه الاستعانة على سلوك طريق الآخرة‏.‏

وصحت نيته واندفع عنه كل غرور منشؤه تجاذب الأغراض والنزوع إلى الدنيا والجاه والمال فإن ذلك هو المفسد للنية‏.‏

وما دامت الدنيا أحب إليه من الآخرة وهوى نفسه أحب إليه من رضا الله تعالى فلا يمكنه الخلاص فإذا غلب حب الله على قلبه بمعرفته بالله وبنفسه الصادرة عن كمال عقله فيحتاج إلى المعنى الثالث وهو العلم‏:‏ أعني العلم بمعرفة كيفية سلوك الطريق إلى الله والعلم بما يقربه من الله وما يبعده عنه والعلم بآفات الطريق وعقباته وغوائله ‏"‏ وجميع ذلك قد أودعناه كتب إحياء علوم الدين فيعرف من ربع العبادات شروطها فيراعيها وآفاتها فيتقيها ومن ربع العادات أسرار المعايش وما هو مضطر إليه فيأخذه بأدب الشرع وما هو مستغن عنه فيعرض عنه ومن ربع المهلكات يعلم جميع العقبات المانعة في طريق الله فإن المانع من الله الصفات المذمومة في الخلق فيعلم المذموم ويعلم طريق علاجه ويعرف من ربع المنجيات الصفات المحمودة التي لا بد وأن توضع خلفاً عن المذمومة بعد محوها ‏"‏ فإذا أحاط بجميع ذلك أمكنه الحذر من الأنواع التي أشرنا إليها من الغرور وأصل ذلك كله أن يغلب حب الله على القلب ويسقط حب الدنيا منه حتى تقوى به الإرادة وتصح به النية ولا يحصل ذلك إلا بالمعرفة التي ذكرناها‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإذا فعل جميع ذلك فما الذي يخاف عليه فأقول يخاف عليه أن يخدعه الشيطان ويدعوه إلى نصح الخلق أو نشر العلم ودعوته الناس إلى ما عرفه من دين الله فإن المريد المخلص إذا فرغ من تهذيب نفسه وأخلاقه وراقب القلب حتى صفاه من جميع المكدرات واستوى على الصراط المستقيم وصغرت الدنيا في عينه فتركها وانقطع طمعه عن الخلق فلم يلتفت إليهم ولم يبق إلا هم واحد وهو الله تعالى والتلذذ بذكره ومناجاته والشوق إلى لقائه وقد عجز الشيطان عن إغرائه إذ يأتيه من جهة الدنيا وشهوات النفس فلا يطيعه فيأتيه من جهة الدين ويدعوه إلى الرحمة على خلق الله والشفقة على دينهم والنصح لهم والدعاء إلى الله فينظر العبد برحمته إلى العبيد فيراهم حيارى في أمرهم سكارى في دينهم صماً عمياً قد استولى عليهم المرض وهم لا يشعرون وفقدوا الطبيب وأشرفوا على العطب فغلب على قلبه الرحمة لهم وقد كان عنده حقيقة المعرفة بما يهديهم ويبين لهم ضلالهم ويرشدهم إلى سعادتهم وهو يقدر على ذكرها من غير تعب ومؤنة ولزوم غرامة فكان مثله كمثل رجل كان به داء عظيم لا يطاق ألمه وقد كان لذلك يسهر ليله ويقلق نهاره لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك ولا يتصرف لشدة ضربان الألم فوجد له دواء عفواً صفواً من غير ثمن ولا تعب ولا مرارة في تناوله فاستعمله فبرئ وصح فطاب نومه بالليل بعد طول سهره وهدأ بالنهار بعد شدة القلق وطاب عيشه بعد نهاية الكدر وأصاب لذة العافية بعد طول السقام ثم نظر إلى عدد كثير من المسلمين وإذا به تلك العلة بعينها وقد طال سهرهم واشتد قلقهم وارتفع إلى السماء أنينهم فتذكر أن دواءهم هو الذي يعرفه ويقدر على شفائهم بأسهل ما يكون وفي أرجى زمان فأخذته الرحمة والرأفة ولم يجد فسحة من نفسه في التراخي عن الاشتغال بعلاجهم فكذلك العبد المخلص بعد أن اهتدى إلى الطريق وشفي من أمراض القلوب شاهد الخلق وقد مرضت قلوبهم وأعضل داؤهم وقرب هلاكهم وإشفاؤهم وسهل عليه دواؤهم فانبعث من ذات نفسه عزم جازم في الاشتغال بنصحهم وحرضه الشيطان على ذلك رجاء أن يجد مجالاً للفتنة فلما اشتغل بذلك وجد الشيطان مجالاً للفتنة فدعاه إلى الرياسة دعاء خفياً أخفى من دبيب النمل لا يشعر به المريد فلم يزل ذلك الدبيب في قلبه حتى دعاه إلى التصنع والتزين للخلق بتحسين الألفاظ والنغمات والحركات والتصنع في الزي والهيئة فأقبل الناس إليه يعظمونه ويبجلونه ويوقرونه توقيراً يزيد على توقير الملوك إذ رأوه شافياً لأدوائهم بمحض الشفقة والرحمة من غير طمع فصار أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم وأقاربهم فآثروه بأبدانهم وأموالهم وصاروا له خولاً كالعبيد والخدم فخدموه وقدموه في المحافل وحكموه على الملوك والسلاطين فعند ذلك انتشر الطبع وارتاحت النفس وذاقت لذة يا لها من لذة أصابت من الدنيا شهوة يستحقر معها كل شهوة فكان قد ترك الدنيا فوقع في أعظم لذاتها فعند ذلك وجد الشيطان فرصة وامتدت إلى قلبه يده فهو يستعمله في كل ما يحفظ عليه تلك اللذة وأمارة انتشار الطبع وركون النفس إلى الشيطان أنه لو أخطأ فرد عليه بين يدي الخلق غضب فإذا أنكر على نفسه ما وجده من الغضب بادر الشيطان فخيل إليه أن ذلك غضب لله لأنه إذا لم يحسن اعتقاد المريدين فيه انقطعوا عن طريق الله فوقع في الغرور فربما أخرجه ذلك إلى الوقيعة فيمن رد عليه فوقع في الغيبة المحظورة بعد تركه الحلال المتسع ووقع في الكبر الذي هو تمرد عن قبول الحق والشكر عليه بعد أن يحذر من طوارق الخطرات وكذلك إلى سبقه الضحك أو فتر عن بعض الأوراد جزعت النفس أن يطلع عليه فيسقط قبوله فأتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء وربما زاد في الأعمال والأوراد لأجل ذلك والشيطان يخيل إليه إنك إنما تفعل ذلك كيلا يفتر رأيهم عن طريق الله فيتركون الطريق بتركه وإنما ذلك خدعة وغرور بل هو جزع من النفس خيفة فوت الرياسة ولذلك لا تجزع نفسه من اطلاع الناس على مثل ذلك من أقرانه بل ربما يحب ذلك ويستبشر به ولو ظهر من أقرانه من مالت القلوب إلى قبوله وزاد أثر كلامه في القبول على كلامه شق ذلك عليه ولولا أن النفس قد استبشرت واستلذت الرياسة لكان يغتنم ذلك إذ مثاله أن يرى الرجل جماعة من إخوانه قد وقعوا في بئر وتغطى رأس البئر بحجر كبير فعجزوا عن المرقى من البئر بسببه فرق قلبه لإخوانه فجاء ليرفع الحجر من رأس البئر فشق عليه فجاءه من أعانه على ذلك حتى تيسر عليه أو كفاه ذلك ونحاه بنفسه فيعظم بذلك فرحه لا محالة إذ غرضه خلاص إخوانه من البئر فإن كان غرض الناصح خلاص إخوانه المسلمين من النار فإذا ظهر من أعانه أو كفاه ذلك لم يثقل عليه أرأيت لو اهتدوا جميعهم من أنفسهم أكان ينبغي أنه يثقل ذلك عليه إن كان غرضه هدايتهم فإذا اهتدوا بغيره فلم يثقل عليه ومهما وجد ذلك في نفسه دعاه الشيطان إلى جميع كبائر القلوب وفواحش الجوارح وأهلكه فنعوذ بالله من زيغ القلوب بعد الهدى ومن اعوجاج النفس بعد الاستواء‏.‏

فإن قلت‏:‏ فمتى يصح له أن يشتغل بنصح الناس فأقول إذا لم يكن له قصد إلا هدايتهم لله

تعالى وكان يود لو وجد من يعينه أو لو اهتدوا بأنفسهم وانقطع بالكلية طمعه عن ثنائهم وعن أموالهم فاستوى عنده حمدهم وذمهم فلم يبال بذمهم إذا كان الله يحمده ولم يفرح بحمدهم إذا لم يقترن به حمد الله تعالى ونظر إليهم كما ينظر إلى السادات وإلى البهائم‏.‏

أما إلى السادات‏:‏ فمن حيث إنه لا يتكبر عليهم ويرى كلهم خيراً منه لجهله بالخاتمة‏.‏

وأما إلى البهائم فمن حيث انقطاع طمعه عن طلب المنزلة في قلوبهم فإنه لا يبالي كيف تراه البهائم فلا يتزين لها ولا يتصنع‏!‏ بل راعي الماشية إنما غرضه رعاية الماشية ودفع الذئب عنها دون نظر الماشية إليه‏.‏

فما لم ير سائر الناس كالماشية التي لا يلتفت إلى نظرها ولا يبالي بها لا يسلم من الاشتغال بإصلاحهم‏.‏

نعم ربما يصلحهم ولكن يفسد نفسه بإصلاحهم فيكون كالسراج يضيء لغيره ويحترق في نفسه‏.‏

فإن قلت‏:‏ فلو ترك الوعاظ الوعظ إلا عند نيل هذه الدرجة لخلت الدنيا عن الوعظ خربت القلوب فأقول قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ حب الدنيا رأس كل خطيئة ولو لم يحب الناس الدنيا لهلك العالم وبطلت المعايش وهلكت القلوب والأبدان جميعاً إلا أنه صلى الله عليه وسلم علم أن حب الدنيا مهلك وأن ذكر كونه مهلكاً لا ينزع الحب من قلوب الأكثرين لا الأقلين الذين لا تخرب الدنيا بتركهم فلم يترك النصح وذكر ما في حب الدنيا من الخطر ولم يترك ذكره خوفاً من أن يترك نفسه بالشهوات المهلكة التي سلطها الله على عباده ليسوقهم بها إلى جهنم تصديقاً لقوله تعالى ‏"‏ ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ‏"‏ فكذلك لا تزال ألسنة الوعاظ مطلقة لحب الرياسة ولا يدعونها بقول من يقول‏:‏ إن الوعظ لحب الرياسة حرام كما لا يدع الخلق الشرب والزنا والسرقة والرياء والظلم وسائر المعاصي بقول الله تعالى ورسوله إن ذلك حرام فانظر لنفسك وكن فارغ القلب من حديث الناس فإن الله تعالى يصلح خلقاً كثيراً بإفساد شخص واحد وأشخاص ‏"‏ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ‏"‏ وإن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم فإنما يخشى أن يفسد طريق الاتعاظ فأما تخرس ألسنة الوعاظ ووراءهم باعث الرياسة وحب الدنيا فلا يكون ذلك أبداً‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإن علم المريد هذه المكيدة من الشيطان فاشتغل بنفسه وترك النصح أو نصح وراعى شرط الصدق والإخلاص فيه فما الذي يخالف عليه وما الذي بقي بين يديه من الأخطار وحبائل الاغترار فاعلم أنه بقي عليه أعظمه وهو أن الشيطان يقول له‏:‏ قد أعجزتني وأفلت مني بذكائك وكمال عقلك وقد قدرت على جملة من الأولياء والكبراء وما قدرت عليك فما أصبرك‏!‏ وما أعظم عند الله قدرك ومحلك إذ قواك على قهري ومكنك من التفطن لجميع مداخل غروري‏!‏ فيصغي إليه ويصدقه ويعجب بنفسه في فراره من الغرور كله فيكون إعجابه بنفسه غاية الغرور وهو المهلك الأكبر فالعجب أعظم من كل ذنب ولذلك قال الشيطان‏:‏ يا ابن آدم إذا ظننت أنك بعلمك تخلصت مني فبجهلك قد وقعت في حبائلي‏.‏

فإن قلت‏:‏ فلو لم يعجب بنفسه إذ علم أن ذلك من الله تعالى لا منه وإن مثله لا يقوى على دفع الشيطان إلا بتوفيق الله ومعونته ومن عرف ضعف نفسه وعجزه عن أقل القليل فإذا قدر على مثل هذا الأمر العظيم علم أنه لم يقو عليه بنفسه بل بالله تعالى فما الذي يخاف عليه بعد نفي العجب فأقول‏:‏ يخاف عليه الغرور بفضل الله والثقة بكرمه والأمن من مكره حتى يظن أنه يبقى على هذه الوتيرة في المستقبل ولا يخاف من الفترة والانقلاب فيكون حاله الاتكال على فضل الله فقط دون أن يقارنه الخوف من مكره ومن أمن مكر الله فهو خاسر جداً بل سبيله أن يكون مشاهداً جملة ذلك من فضل الله ثم خائفاً على نفسه أن يكون قد سدت عليه صفة من صفات قلبه من حب دنيا ورياء وسوء خلق والتفات إلى عز وهو غافل عنه ويكون خائفاً أن يسلب حاله في كل طرفة عين غير آمن من مكر الله ولا غافل عن خطر الخاتمة‏.‏

وهذا خطر لا محيص عنه وخوف لا نجاة منه إلا بعد مجاوزة الصراط‏.‏

ولذلك لما ظهر الشيطان لبعض الأولياء في وقت النزع وكان قد بقي له نفس فقال‏:‏ أفلت مني يا فلان فقال‏:‏ لا بعد‏.‏

ولذلك قيل‏:‏ الناس كلهم هلكى إلا العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم‏.‏

فإذن المغرور هالك والمخلص الفار من الغرور على خطر فلذلك لا يفارق الخوف والحذر قلوب أولياء الله أبداً‏.‏

فنسأل الله تعالى العون والتوفيق وحسن الخاتمة فإن الأمور بخواتيمها‏.‏

تم كتاب ذم الغرور وبه تم ربع المهلكات ويتلوه في أول ربع المنجيات ‏"‏ كتاب التوبة ‏"‏ والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده وهو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏